الكاتب / عمرو الشاعر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وسلم, أما بعد:
الفرق بين تعبير الرؤيا وتأويل الأحلام كما ورد في الآيات في سورة يوسف:
“يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين”
هناك بداهة فارق في المعنى بين الإثنين، ولكن هذا لا يعني أن التعبير مختص بالرؤيا والتأويل مختص بالأحلام، فالرؤيا تَأول والأحلام تُعبّر! فالله تعالى يقول في نفس السورة:
“وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف : 100]
أما بخصوص الفارق بين التعبير والتأويل، فراجع إلى الاختلاف في المعنى بين الإثنين، ولننظر في مدلول التعبير لنرى كيف استعمله العرب:
يقول ابن فارس في المقاييس: “العين والباء والراء أصلٌ صحيح واحدٌ يدلُّ على النفوذ والمضيِّ في الشيء. يقال: عَبَرت النّهرَ عُبُوراً.
وعَبْر النهر: شَطُّه.” اهـ ويؤيده في هذا ابن منظور فيقول في اللسان:
” …….. والعابر: الذي ينظر في الكتاب فيَعْبُره أَي يَعْتَبِرُ بعضه ببعض حتى يقع فهمُه عليه، ولذلك قيل: عبَر الرؤْيا واعتَبَر فلان كذا، وقيل: أُخذ هذا كله من العِبْرِ، وهو جانبُ النهر، وعِبْرُ الوادي وعبره …….. وعَبَرْت النهرَ والطريق أَعْبُره عَبْراً وعُبوراً إِذا قطعته من هذا العِبْر إِلى ذلك العِبر، فقيل لعابر الرؤيا: عابر لأَنه يتأَمل ناحيَتي الرؤيا فيتفكر في أَطرافها، ويتدبَّر كل شيء منها ويمضي بفكره فيها من أَول ما رأَى النائم إِلى آخر ما رأَى.” اهـ
إذا فالعبور يدل على المضي والانتقال من شيء إلى آخر عبر وسيط، فإذا نظرنا في معنى التأويل في اللغة، وجدنا ابن فارس يقول:
الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه ………. وقولهم آل اللّبنُ أي خَثُر من هذا الباب، وذلك لأنه لا يخثر [إلاّ] آخِر أمْرِه.” اهـ
ويقول ابن منظور في اللسان: “الأَوْلُ: الرجوع. آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً: رَجَع. وأَوَّل إِليه الشيءَ: رَجَعَه. وأُلْتُ عن الشيء: ارتددت. ………. وقوله عز وجل: ولَمَّا يأْتهم تأْويلُه؛ أَي لم يكن معهم علم تأْويله، وهذا دليل على أَن علم التأْويل ينبغي أَن ينظر فيه، وقيل: معناه لم يأْتهم ما يؤُول إِليه أَمرهم في التكذيب به من العقوبة،” اهـ
إذا فالأول يدل على أصل الشيء الذي تعود وترتد إليه التوابع.
والمشكل في معاجم اللغة أنها لا تلتزم الدقة الشديدة في التفريق بين المتقاربات المعاني –ولكن لا ننسى لهم الجهد العظيم في إنجاز هذه الأعمال!- فلا تخرج منها بتفريق بينها, فإذا نحن نظرنا في لسان العرب تحت مادة “ع ب ر”, وجدناه يقول: “عَبَرَ الرُؤيا يَعْبُرُها عَبْر وعِبارةً وعبَّرها: فسَّرها وأَخبر بما يؤول إِليه أَمرُها. وفي التنزيل العزيز: إِن كنتم للرؤُيا تَعْبُرون؛ أَي إِن كنتم تعْبُرون الرؤيا فعدّاها باللام، كما قال: قُلْ عسى أَن يكون رَدِفَ لكم؛ أَي رَدِفَكم؛ قال الزجاج: هذه اللام أُدْخِلت على المفعول للتَّبْيين، والمعنى إِن كنتم تَعْبُرون وعابرين، ثم بَيَّنَ باللام فقال: للرؤيا، قال: وتسمى هذه اللام لامَ التعقيب لأَنها عَقَّبَت الإِضافةَ، قال الجوهري: أَوصَل الفعل باللام، كما يقال إِن كنت للمال جامعاً.” اهـ
وبداهة تعبير الأحلام أو الرؤى ليس تأويلها، وإنما هو تعبير، لذا يمكننا القول أن كل ما يفعله السادة الذين يظهرون في الإعلام في برامج تفسير الأحلام, هو أنهم يحاولون تعبير الأحلام لا تأويلها وشتان ما بين الإثنين.
فالتعبير كما قلنا هو المضي والانتقال من شيء إلى آخر، وهذا ما يحدث مع المنجمين أو مفسري الأحلام! فهم يحاولون الربط بين حال الحالم أو صاحب الرؤيا وبين العناصر الواردة في الحلم، ويحاولون استخراج الرموز المذكورة في الرؤيا وإسقاطها على أرض الواقع، وهذا لا يزيد عن كونه تعبيرا! وهذا مشابه لما نقوم به عندما نقدم لإنسان صورة مرسومة ونقول له: عبر عن هذه الصورة بكلماتك! فيبدأ في التعبير أي في نقل المرئي إلى منطوق. ومن الممكن أن نقول له: استخرج الإشارات والرموز الموجودة في هذه الصورة! فيركز قليلا حتى يجمع عناصر الصورة والصورة العامة لها، ثم يبدأ في استخراج ما قد يكون الرسام قد قصده بصورته وبرسمه هذا. والمعبر لا يستطيع أن يجزم بصحة تعبيره وإنما هو اجتهاد واستنباط. أما التأويل فهو رد الأمر إلى الأصل الذي خرج منه، لذلك نجد أن التأويل “يأتي ويقع”! نعم، يأتي فالشيء يكون في حال وينتقل إلى أخرى فيكون هذا تأويله أي المرجع الذي يصير إليه فعلا وحالا, كما قال تعالى:”هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأعراف : 53]
بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس : 39]
وَأمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً [الكهف : 82]
إذا فالتأويل مرجع الشيء ومصيره، لذلك قد يترتب على الفعل تأويل حسن أو سيىء: ” وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [الإسراء : 35]”
ونخلص من هذا كله إلى أن التأويل أقوى من التعبير، فالتأويل هو مصير الشيء ومرجعه، وهو لا يكون بالكلام أبدا وإنما بالوقوع, لذا نلاحظ أن القرآن لم يستعمل التأويل مع الكلام وإنما استعمله مع الفعل والوقوع “قال يا أبت هذا تأويل رؤياي” أي كل ما حدث له ولأخوته هو تأويل الرؤيا, أما التعبير فما هو إلا توصيف للشيء عن طريق جمع عناصره وقد يصيب التعبير أو يخطئ.
فإذا نحن نظرنا في الآيات يتضح لنا الفرق في الاستعمال:
وقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف : 43]
فنلاحظ هنا استعمال الصيغة الفعلية من “عبر” وهي تعبرون, وهي بالمعنى الذي ذكرناه بأعلى, فإذا نظرنا في رد الملأ وجدناه:
“قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ [يوسف : 44]”
إذا فلقد فهم الملأ سؤال الملك ولم يحاولوا أن يعبروا له الرؤيا, لأن الملك لا يطلب أو يريد منهم مجرد فهم لهذه الرؤيا أو تعبير وإنما يريد أن يعرف مدلولها وكيف ستتحقق على أرض الواقع, فإذا هم قالوا بتأويل ثم وقع آخر فسينالهم عقاب شديد, لذلك قالوا: وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين, أي لا نعرف إلى ما تصير الأحلام وكيف تتحقق.
وننظر في آيات أخر لنرى كيف استعمل القرآن مصطلح التأويل:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف : 36]
َقالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف : 37]
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف : 45]”
فنلاحظ في هذه الآيات أن القرآن يتكلم عن إنباء بتأويل, ولا يذكر أبدا “أوّلت الرؤيا” وإنما أنبأت بتأويل, لأنه من المستحيل أن يؤول أحد الرؤيا, لأن الرؤيا رؤيا انقضت, وهي تشير إلى شيء سيحدث في الواقع, فالإنسان الخبير يستطيع أن ينبأ بما سيحدث في الواقع مقابلا لهذه الرؤيا لا أنه سيحول الرؤيا نفسها إلى واقع!
إذا فلقد قام سيدنا يوسف بالإنباء –وليس الإخبار, لأن التأويل لم يكن قد وقع بعد وإنما سيحدث في المستقبل- بتأويل الرؤى.
نخلص من هذا كله إلى أن استعمال ” أوّلت الرؤيا أو الحلم” استعمال خاطئ، وإنما يقال: أنبأت بتأويل الرؤيا. وكذلك نقول أن كل المعاصرين يقومون بتعبير الأحلام والرؤى وهذا يستطيعه كل حاذق سريع البديهة، أما الإنباء بتأويل الأحلام أو الأحاديث أو الرؤى فلا يكون إلا ممن علمه الله عزوجل كسيدنا يوسف أو باقي الأنبياء عامة.
والله أعلى وأعلم.